بسم الله الرحمن الرحيم
رن هاتفه في منتصف الليل ليرى رقما على شاشته لم يألفه من قبل, أجاب فإذا الاتصال من المقاومة الفلسطينية تطلب مشورته في إبطال مفعول قنبلة من طراز طائرة F16سقطت على جموع الشعب الفلسطيني ولم تنفجر, سرعان ما لبى الطلب رغم شديد التعب الذي يلقاه في عمله في النهار فهو عامل نظافة في أحد مصانع قطاع غزة.
أبو شادي بالنسبة لنفسه بطل من هذه الحياة, وبالنسبة للذين يعمل معهم هو أحد أبطال الأفلام الخيالية التي يرويها يوميا لهم في العمل, فمرة يكون الفارس الشهم الذي ينقذ سيدة أغمي عليها في الطريق وهي تحمل مجوهرات بقيمة 100 ألف دينار أردني ويرفض أن يأخذ المقابل, ومرة يحمي جاره من بطش الظلمة ويسعى ورائهم حتى يرد له حقه, وهو في كل ما يروي لا يعي أن من حوله إنما يسلون وقت العمل الصعب بالسماح لما يقول بينما يظن هو أنهم عطشى لروايات أبو شادي الهلالي.
بطل تقريرنا هو "س. ع." الرجل الاربعيني المتزوج منذ عشرون عاما والذي أصر الرئيس الراحل ياسر عرفات – وفق رواية نسجها خياله - على حضور فرحه مقاطعا زيارة لوزير الخارجية الأمريكي في رام الله, والذي أنجب منذ تهنأة أبو عمار له في زفافه حتى اليوم خمسة أولاد أكبرهم شادي والبالغ من العمر 18 عاما.
يزعم أبو شادي أن علاقاته القوية مع رجالات السلطة من كل الفصائل الفلسطينية من غزة والضفة الغربية كانت السبب الرئيس وراء زواج ابنة أخيه من ابن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي, والذي كان أحد شروطه الرئيسية "السرية" ومع هذا فإنه – وفقا لأبو شادي - يصر على التواضع لزملائه والتعامل معهم ببساطة, وكسب قوت يومه من عرق جبينه.
ربما لا تكون حالة الرجل حالة طبيعية, ربما هي حالة نفسية يعيشها بسبب ضيق ذات الحال والظروف التي يعيشها وربما أنه يروى الأحلام والتهيئات التي لطالما تمنى أن يكونها غير أنها لم تتحقق, وربما هي مرض نفسي ألم به منذ الولادة أو منذ حادثة هو لا يدركها, أو لم يروي تفاصيلها بعد, لكن المؤكد أن أبو شادي ليس حالة فريدة في غزة بل هو واحد من ضمن حالات متعدد لا تجد الرعاية المطلوبة من الجهات المختصة سواء جمعيات أهلية أو حكومات متعاقبة على الشعب الفلسطيني, أو أسر تعي كيف تعيد صياغة حالة ابنها, أو مجتمع يستغل الحالة للتسلية فقط, وهو أمر تقول زوجته إنه يعود على الأسرة أولا بالحرج لأن كل من حولها وحول أبنائها يسخر من أبو شادي, وثانيا بالضيق في ذات اليد يوما بعد يوم وأكثر فأكثر خصوصا مع تزايد متطلبات الأسرة اليومية, فها هو ابنها شادي في الثانوية العامة والذي يعد واحدا من أنجح الطلبة في مدرسته, فهو حاصل في الثاني الثانوي على معدل 97% وتخشى زوجته ألا يجد مكانا مناسبا في الجامعة بسبب عدم قدرة العائلة على توفير الرسوم الجامعية المقررة خصوصا في الفصل الدراسي الاول والذي تكون دراسته الزامية الدفع خلاله, كما تخشى أن تظل حالة الإنطواء التي سببتها له "كذب" أبو شادي مصاحبة له حتى في الجامعة وهي الفترة التي تقول أم شادي إنها الأمتع في الحياة.
وتعترف أم شادي أنها لا تدري كيف تزوجت أبو شادي, لكنها تقول أن "النصيب غلاب", مستطردة "لقد حاولت جاهدة منعه عن الكذب, شرحت له أنه يصغرني ويصغر أبناءه لكنه يظل يقسم لي كما للناس أنه يقول الحقيقة حتى تركت أمره وأصابني الملل منه ويأست من إصلاحه".
أم شادي التي لامت المجتمع الغزي على استمرارها في الحياة مع بعلها أبو شادي بسبب رفضه فكرة الطلاق تقول أنها وبعد عشرين عاما تجد في نفسها محبة رغما عنها له, وتشعر أنه أحد أطفالها الذي يكذب لأنه يروي قصص من خياله يشعر أنها حقيقة وليس لأنه كاذب, مؤكدة أنها تجد العوض الكبير في أولادها".
أما الدكتور محمد عطيه الأكاديمي في جامعة الأقصى والمتخصص في علم النفس التربوي فيقول إن الطبيب النفسانى قد لا يعرف السبب وراء لجوء الشخص إلى الكذب وما الذى يدفعه إليه حتى وإن غابت الأسباب والعوامل المؤدية لمختلف أشكال الكذب الأخرى, كما أن الأخصائي لا يعرف لماذا يتجنب الشخص قول الحقيقة للآخرين، لكن الشىء المعلوم جيداً هو أن الكذب الذى يندفع إليه الشخص داخليا هو لعدم شعوره بالأمان والطمأنينة النفسية, أو خشية من العقاب أو وقوعه فى دائرة الصراع, أو رغبة منه فى إخفاء شىء, أو لكسب ود الآخرين وحب السيطرة عليهم, أو, لكى يكون مقبولاً اجتماعياً, أو قد يستخدمه الشخص لحماية النفس والظهور بمظهر لائق أمام الجماعة التى يتفاعل معها, أو عدم القدرة على مواجهة الواقع، وهى حيلة دفاعية يتحول بها الإنسان عن الواقع الذى يرفضه أو لا يقوى على تحمله لأنه لا يستطيع أن يتكيف معه، فبدلاً من أن ينفجر ويعانى من آثار الضغط النفسى يتحول إلى الكذب.
ويفسر عطية حالة أبو شادي بالسبب الأخير, محملا الأسرة المحيطة به في الصغر السبب وراء ما وصل له الرجل من غياب عن الواقع, والمجتمع المسئولية الثانية لأن المجتمع بقي يشجع أبو شادي على الكذب بالاستماع له وإن ساخرا.
وأكد الأكاديمي الجامعي أن حالة أبو شادي هي حالة منتشرة في قطاع غزة, وهي حالة مرضية يمكن التغلب عليها بالعلاج النفسي المصحوب بالمسئولية الحكومية والمجتمعية, مؤكدا أن أولى أسس هذه المسئوليات يكمن في دعم أسرته المادي والمعنوي حتى لا تكون عرضة لطمع الزاهدين في دينهم, ولإبتزاز الغير من ذوي الأخلاق المنعدمة.
غادرنا منزل أبو شادي وهو يعدها بدعم كبير من صديقه الرئيس أبو مازن, لكن زوجته أكد لنا المؤكد لدينا أصلا, أن زوجها لا يعرف الرئيس ولا الرئيس يعرفه, لكنها تمنت أن يصل حواها معنا له وأن يتعطف عليها بالمساعدة حتى تستطيع اكمال مشوار الحياة الذي تحمله وحدها.